Monday, December 26, 2005

الآلهة



1
سرق بروميثيوس شعلة المعرفة من عند زيوس كبير الآلهة ليعطيها للبشر. كان بروميثيوس إلهاً كذلك، لكنه ارتأى أن المعرفة لا يصح أن تبقى لدى الآلهة فقط، و لم يكن أبداً مؤيداً لزيوس في عزلته عن البشر و احتقاره لهم. و بالرغم من تحذيرات زيوس له بأن المعرفة المقدسة لا تصلح للبشر المائتين، فقد خدعه بروميثيوس و أعطى للبشر - الساكنين في الكهف المظلم آنذاك - ما قد يفتح لهم مجال الألوهية. فوهبهم حرفة النجارة، و علوم الفلك لمعرفة الأزمان و النجوم، ثم أعطاهم الكتابة. و أخيراً سرق شعلة النار المقدسة من عند زيوس و وهبها للبشر!

2
حين أضاءت النار المقدسة الكهف المظلم، تفجّر الإبداع لدى البشر! و بدا أنهم قد يصيرون هم ايضاً آلهةً أو ما شابه. عندها، حمى غضب زيوس - كبير الآلهة - على بروميثيوس و على البشر؛ فقرر أن يعاقب الجميع!
عوقب بروميثيوس - الإله الطيب - بأن عُلِّق على جبل القوقاز عارياً، بينما النسر الإلهي يأكل كبده. و حتى يدوم عقابه للأبد، فقد أمر زيوس بأن يُخلق له كبدٌ جديد كلما فنى واحد...
هكذا تحمّل بروميثيوس ثمن محبته للبشر!

3
أما البشر، الذين ملأت النار المقدسة حياتهم بالمعرفة و الحكمة، فقد أغاروا آلهة جبل الأولمب من براعتهم! و قد خشي الآلهة إن هم تألهوا أن يطيحوا بعروشهم.
كان عقاب زيوس شديداً للبشر، كما كان أبدياً! فقد خلق زيوس فاتنةً بارعة الجمال... و قد صنع جسدها هيفيايستوس، و أعطتها أثينا العقل و الذكاء؛ أما أفروديت فقد وهبتها الفتنة و الإغراء.
و أسمى الآلهة الفتاة - العقاب "باندورا" أي مانحة كل شيء، و أرسلوها للعالم...

4
فتنت باندورا إفيمثيوس - أخا بروميثيوس الذي تنازل عن ألوهيته كي يصير بشراً بين المائتين - لأنه ، بصيره إنساناً، أصبح تحت حكم الشهوة و الفتنة. فلم تفلح معه تحذيرات أخيه من مكر الآلهة و كيدهم...
و حين ضاجع باندورا، ضحك زيوس من فوق جبل الأولمب، لأن مكيدته قد نجحت، و لأنه - في تلك اللحظة بالذات - انتصر على بروميثيوس للأبد. في اللحظة التي ضاجع إفيمثيوس فيها باندورا خرجت اللعنة من جسدها لتملأ الأرض، و دخل للعالم -للمرة الأولى - المرض و الفقر و البؤس و الشقاء.

5
هكذا عوقب البشر عقاباً أبدياً، لأن الآلهة لم تحتمل تفوقهم... و لأن نار المعرفة لا يمكن أن تسكن بينهم بلا ثمن.
على أن القصة لم تنتهِ هكذا - و ربما لن تنتهي أبداً - لأن باندورا قد بقى في جسدها ؛ بعد أن خرجت منه اللعنة لتملأ الأرض؛ بقايا إلهية اسمها "الرجاء". و كان السر الذي لم يكشفه زيوس و لا بروميثيوس و لا غيرهما للبشر، أن في ذات الجسد الذي حمل اللعنة يكمن سر التغلب عليها.

6
هكذا غلب البشر الآلهة، لأنهم قد حصلوا في النهاية على نار المعرفة المقدسة.
و لأن باندورا الفاتنة كانت مانحة كل شيء بالفعل - كما تسمت - اللعنة و الخلاص، المرض و الشفاء، اليأس و الرجاء!
م

Saturday, December 17, 2005

أبوية

1
عام 1966، وصف إريك بيرن - الطبيب الكندي - ثلاث مكونات تتصارع داخل النفس الإنسانية : الأبوي، الطفولي و الناضج. و شبههم في كتابه "ألعاب يلعبها البشر" بثلاث عاملات تليفون يدِرن سنترال واحداً و يتنازعن دائماً للرد على المكالمات.
كانت هذه بداية نظرية التحليل النفسي التفاعلي ، و معها ثورة علم النفس الحديث.
ما يهمني أن "الأبوي" هو المسئول دائماً عن تسجيل ما يتلقاه من "الآباء" دون تحليل و لا نقد. قال بيرن أن هذا الجهاز يبدأ في العمل منذ سن ستة أشهر و يتوقف تماماً قرب العشرينات ليتولى "الناضج" القيادة. و افترض بيرن أن هذا ما يؤدي بالضرورة للنفسية السوية.

2
في مناقشة مع صديق فرنسي، اقترحت أن أزمة الإيمان في أوروبا قد يكمن حلّها ببساطة في تقديم صورة الله الأب
الحنون للشباب. ردّ صديقي أن هذه قد تكون أصل المشكلة!
الله في المسيحية "آب" ، و باللغة العربية "أب". كان أن نشأ اللفظ عند محاولة إيجاد كلمة تعني المصدر و البداية، و كان اللفظ السرياني "آب" هو الأقرب للمعنى. أما الإسلام فيقدم الله في صورة أبوية أخرى، الأب الذي يعلم كلَّ شيء و يتطلب من أبنائه الكثير و قد يقسو أحياناً.
أب يحاصر بالحب أو بالقسوة،
في الحالتين النتيجة واحدة!

3
حين رَسم مايكل-أنجلو الله على حائط كنيسة السستين، رسم كَهلاً ذي جسم شديد القوة. هكذا عبّر الفنان عن الأب الذي لا يموت و لا يفنى.

4
سألتُ أمي: هل الله يرى كلَّ شيء؟
- نعم
- و هل يراني في الحمّام؟
- نعم
- كم هو متطفل!
( جون بول سارتر - الكلمات)

5
أعلن الرئيس السادات أنه "رب العائلة" و بهذا أفصح عن مفهوم ظلّ سابقه يصدقّه و يمارسه و إن لم يفصح عنه. كان عهد السادات هو ذروة العهد الأبوي في السياسة المصرية. تلاه عهدٌ شاء أن يكون أبوياً لكنه وجد نفسه في مأزق من يتخذ ابنته عشيقةً له. فحاول الانتقال بفجاجة من حالة الرئيس/ الأب إلى الرئيس / الزوج (شرعياً!). و مع هذا الانتقال، يعود مصطلح "الشرعية" للظهور، فيما لم يحتجه السابقان أبداً.

6
عند المسيحيين، الرئيس الأعلى للكنيسة "أب"، لا ليس اي أب بل هو ال"أب" - ال"بابا" (لإضافة شيء من الحميمية على الكلمة). له كل سلطات الأب و كل كرامته أيضاً. و يُنسَب له ما يُنسَب للأب، يدري مصلحة الأبناء، و يتكلم باسمهم بل و يتولى عنهم اتخاذ القرارات لأنه أدرى بمصلحتهم.
النظام الأبوي في الإسلام أقل وضوحاً، و إن كان يمكن إيجاد بعض مظاهره في مفهوم "الحاكم - أمير المؤمنين".

7
ينشأ الطفل المصري في كنف أبويه حتى الثلاثينات من العمر. وضع شاذ و غير طبيعي بالمرة!
الكل من حوله يمارس عليه أبوةً بشكل أو بآخر. مدرّسة الحضانة، ثم المدرسة، مدير المدرسة، أساتذة الجامعة (الآلهة الصغيرة و الكبيرة)،رجال الدين، رجال الأحزاب، نشطاء حقوق الإنسان (الذين هم أدرى بمصلحته)، العائلة، الشرطة، مباحث أمن الدولة، الأطباء، السيّاس... إلى آخر القائمة!
الكل يعرف مصلحته و ما يجب عليه أن يفعله، إلا هو!

8
ألاحظ صراصيرَ على سرير المريضة. أطلب الحديث مع مرافقتها: "ينفع كدة الصراصير على الملاية؟"
تجيبني في لا مبالاة: " و إيه يعني؟"
ثم تضحك من سذاجتي
أَضحك من نفسي لأني أردتُ أن أمارس أبوّةً عليها.

9
المعارضة تكشف انحراف الحزب الوطني و تقدم البديل. يسير شباب كفاية في مظاهرات و يجوبون الشوارع، يُعجَب الناس بشجاعتهم و يؤيدونهم سراً. في الصباح، ينتخب نصف الناس الحزب الوطني و نصفهم الأخوان المسلمين!
هكذا يرون مصلحتهم، فهل المعارضة تعرف مصلحة المصريين أكثر منهم؟
إذا ارادوا ان ينتخبوا الوطني و الأخوان فليفعلوا، لسنا آباءً لهم!!

10
قال زرادشت:
"انظروا إلى أهل الصلاح و العدل لتعلموا من هو ألدّ أعدائهم، إنه من يحطم الألواح التى حفروا عليها سُنَنَهم، ذلك هو الهدّام، ذلك هو المجرم، غير أنه هو المبدع.
إن المبدع يطلب رفاقاً له بين من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم. و سوف يدعوهم الناس هدّامين و مستهزئين بالخير و الشر، غير أنهم يكونون هم الحاصدين و المحتفلين بالعيد"
( فريدريك نتشه - هكذا تكلم زرادشت)

11
لأني لا أريد ان أكونَ ابناً فأنا لا أريد أن أكون أباً

Friday, December 02, 2005

النبي الإفريقي - 6

و في الصّباح،
و كان قد أشبع جموعاً بالأمس و شفى مرضى -
سأله تلاميذه :
"يا معلم، قُل لنا
كيف صرت نبياً؟"

أما المصطفى فبكى في قلبه
لقلة إيمانهم
ثم التفت إلى ورائه،
إلى حيث كانت الجبال تحتضن النهر الثائر
و قال لتلاميذه :
"الحق الحق أقول لكم
إني لم أرَ رؤيا في حياتي
و لم أسمع أصواتاً
و لم أحادث ملائكةً
و لا صنعت معجزاتٍ"

فقال بعضٌ منهم:
إنه يهذي لا محالة
ألم نره بالأمس يقيم مقعداً؟
ألم يخلق وردةً من حبة خردلٍ ملقاةٍ على الطريق؟
ألم نسمع ملاكاً يقويه عند تجربته؟

أما هو فعلم ما كانوا يقولون
و التفت إليهم صائحاً:

" الويل لجيلٍ يطلب أنبياءً
يجترحون المعجزات
و لا يمدون أياديهم لطفل صغير
يعبرون معه النهر باسمين

الويل لجيل يطلب أنبياءً
يتكلمون مع الملائكة
و لا يصمتون احتراماً لزهرةِ
تولد من عدم الموت إلى الحياة

الويل لكم إن طلبتم أنبياءً
يسمعون أصواتاً خفية
و لا يقدرون أن يستمعوا لعصفورٍ
ينشد أغنية الثورة كل صباح"

من ذلك اليوم رجع عنه كثيرون إلى الوراء
لأنهم شكّوا

و مضى هو مع من بقى من تلاميذه
إلى الجبل ليصلي

و في تلك الليلة،
عبر طفلٌ النهرَ
و وُلدت زهرة جديدة.
و عند الفجر،
أنشد عصفور!
م

--