يقظات
يَـقَظـَـات - قصة قصيرة
المُطِل من شرفة منزلنا، يستطيع أن يشاهد أشياءً متفرقة و عجيبة. أشياء ليس بها اتصال إلا في شكل واحد: الحركة! حركة دائمة. و إذا كان للبعض هوايات يهربون إليها في أوقات فراغهم كالرياضة على أنواعها و القراءة مثلاً، فقد اكتسب بعضٌ آخر هواياتٍ أخرى غريبة تفاوتت بحسب فائض الوقت و مقدار الشجاعة. فقفز البعض بالمظلات مثلاً، بينما أغرق الآخرون -الأقل وقتاً و شجاعةً مثلي- في التأمل و مراقبة المارة و حركتهم. أجل، أحب أن أنظر إلى شارعنا و إلى السائرين فيه. فهذا ذاهب لميعاد عمل و تلك (البوابة) تنظف ملابس قصيرة و كثيرة يمكن الاستدلال مع بعض إعمال الذهن أنها لأطفالها! و هذا رائح... و ذاك غادٍ، و هذه هي الحياة !!
استيقظتُ عصر ذلك اليوم بعد نومتي القصيرة المعتادة، ثم و قفت في الشرفة لأنظر. كان "نصر" كما أعتدت أن أجده كل يوم، جالساً (أو بالأحرى مستلقياً) على رصيف الشارع مقابلي. كان كما عرفته (و بالتحديد رأيته!) دائماً، في ذات الثياب القديمة المهلهلة، لحيته التي لم تُحلق و لم تُطلق أيضاً، يداه النحيلتان المرتعشتان كأنما ترقصان على نغمة أبدية لا يسمعها سواهما، و نظراته... نظراته الحادة تجاه المارة. كانت عيناه هما الوحيدتان الملتزمتان بقانون شارعنا، كانتا الوحيدتان المتحركتان... يمنة و يسرة تتبعان المارة في شيء من الذهول يجعلك تتساءل إن كانتا ترصدان الناس لهدف معين أم أنهما التصقتا فقط بهدف متحرك فباتتا لا تتبعان سواه من دون قصد.
وقفت أتأمل هذا المخلوق العجيب النصف نائم أمامي، هذا الإنسان!!
بينما انطلق خيالي في هوايته كراوية للحكايات، حكايات بسيطة ليس فيها تشويق الدراما أو رومانسية أفلام السينما، كانت حكاياته دائماً حقيقية! و كأنما انفتحت شاشة كبيرة أما عيناي و بدأت صفحات حياته تتوالى عليها الواحدة خلف الأخرى.
و بدا لي مولوداً جميلاً يتبسم لملاطفيه (ربما ابتسامات حياته الوحيدة!) بين أبوين فرحَين بقدوم الولد بعد نسل من البنات. ثم رأيتهما و قد تملكتهما الحيرة في أي اسم يختارانه للمولود الجديد، و إذ بالأب تلمع عيناه صارخاً " نصر، نصر! ألا إن نصرَ الله لقريب!" و هللت " أم نصر " مزغردة. و علت أصوات المهنئين و المهللين " ربنا يجعل رزق أخواته السبعة في رجليه " ... " ربنا ينصره على كل عدوينه" ... " الراجل في البيت نعمة و لو كان فحمة" ... " الولد حمال المصايب..." إلى آخر العبارات التي اعتادها الناس في مثل تلك المقامات.
و يبدو أن تلك الأدعية لم تجد من يسمعها، أو أن تلك الحكم التراثية لم تكن إلا أوهام مهنئين. فلقد رأيت –عل شاشة خيالي- بعدها ما جعله " نصراً " مهزوماً مقهوراً لا يقدر أن يرفع هامته.
يتعلم " نصر " مهنة أبيه الموروثة عن الجد "الميكانيكية"، و ما يلبث أن يبرع فيها بقدر طاقته فيصبح أحد الخبراء ذائعي الصيت في المنطقة لعلاج أمراض السيارات و سائر أعراضها. و تستمر به الحياة تياراً يحمله في مهب الرياح، لم يأتِ إليها باختياره و كذا لم يختَر فيها شيئاً آخر!!
و رأيت ما أصابته الحياة، فارتعد ذهني من تلك الأهوال! مات الأبوان، و بقي وحده يحمل مسئولية سبع بنات لم يكن له يد في مجيئهن لهذه الدنيا. لم يكن يستطيع أن يتحمل لأنه لم يكن يفهم الأسباب أو الدوافع وراء أي شيء من حوله! هل فكر مرة في حاله، فتمرد على ما هو فيه؟ هل حلم يوماً أن يغير عالمه القاتم من حوله؟ هل جلس متأملاً مصيره راسماً خطة مستقبلٍ يتمناه؟ يبدو أن الأحلام و الأفكار رفاهية حرمته منها الحياة مثلما حرمته من مثيلاتهما...
فانصرف عن همه للسُكر هرباً من الواقع المؤلم، و لكن هذا لم يُزِد واقعه إلا أيلاماً. على أن طرد صاحب الورشة له كون الصورة الأخيرة على شاشتي فآل مآله أمامي، على الرصيف مقابل شرفتي، أتطلع إليه بعد يقظة من نومة الظهر القصيرة.
و إذ بـ"نصر" يعتدل في رقدته، و يمسك بطبق الـ"كُشري" الذي ابتاعه منذ يومين لينهي ما كان متبقياً فيه في حركات آلية سريعة تنم عن جوع شديد لا عن شهية مفتوحة. ثم يستكمل وجبته بجرعة من زجاجة أخفاها في صدر جلبابه الرث، و يتفرغ كي يراقب ما يجري في الشارع.
"عادل بيه" مسافر، إنه يشير إلى البواب أن يحمل له حقيبته.
ـ تيجي بالسلامة يا بيه.
ـ الله يسلمك يا " نبوي "، ابقى شوف طلبات الهانم و أنا مسافر. و ما تنساش تستنى الـbus بتاع المدرسة مع " بوسي "
" وفاء هانم " عائدة بمشتريات الأسبوع، تنزل من التاكسي و تعطي لــ"نبوي" ورقة لم يستطع " نصر " تبين قيمتها:
ـ ابقى حاسبه يا " نبوي "، و طلع الشُنط ورايا.
حركة ... حركة ... حركة ...
هؤلاء " يفسِحون " الكلب، و أولئك نازلون للصلاة، و هناك من يسألون عن عيادة "الدكتور فوزي " ....... حركة في كل مكان!
كانت عيناه كأنما الشارع، تتحرك فيهما مقلتاه. كان ينظر نظرة تائهة لكل هذا. يبدو أنه لا يفهم ما يدور من حوله، كأنه ليس موجوداً،أو موجود فقط في هامش الصفحة، لا يملك فعلاً و لا حتى إرادة فعلٍ، مغيباً عن هذا العالم المتحرك المجنون.
كانت عيناه كأنما تنتظران من يراهما، و إذ وقعتا على عيناي انتفضتا حتى كادتا تخرجان عن مدارهما!
لم يكن يعرف أني كنت أرقبه كل ذلك الوقت، و أنا لم أكن أعرف أن كل ذلك الوقت مر و أنا أرقبه. نظرت في ساعتي فإذا هي الحادية عشر. أما هو فنظر إلى جسده ثم إلى الرصيف، جَرع من زجاجته المخبأة، استلقى عل فراشه العتيد، ثم أغمض عيناه مرجئاً حركتهما إلى الغد.
و أحسست أننا أتحدنا لفترة قصيرة من الزمن، فقد كان كلانا يتابع حركة الشارع من مخبأه في سكون. و كان كلانا أيضاً في إحدى يقظاته...
كان الفارق الوحيد بيننا، الذي جعل كلاً منا في عالمه، أنني كنت أتابع من أعلى، أما هو فكان ينظر من أسفل .....
تمت
المُطِل من شرفة منزلنا، يستطيع أن يشاهد أشياءً متفرقة و عجيبة. أشياء ليس بها اتصال إلا في شكل واحد: الحركة! حركة دائمة. و إذا كان للبعض هوايات يهربون إليها في أوقات فراغهم كالرياضة على أنواعها و القراءة مثلاً، فقد اكتسب بعضٌ آخر هواياتٍ أخرى غريبة تفاوتت بحسب فائض الوقت و مقدار الشجاعة. فقفز البعض بالمظلات مثلاً، بينما أغرق الآخرون -الأقل وقتاً و شجاعةً مثلي- في التأمل و مراقبة المارة و حركتهم. أجل، أحب أن أنظر إلى شارعنا و إلى السائرين فيه. فهذا ذاهب لميعاد عمل و تلك (البوابة) تنظف ملابس قصيرة و كثيرة يمكن الاستدلال مع بعض إعمال الذهن أنها لأطفالها! و هذا رائح... و ذاك غادٍ، و هذه هي الحياة !!
استيقظتُ عصر ذلك اليوم بعد نومتي القصيرة المعتادة، ثم و قفت في الشرفة لأنظر. كان "نصر" كما أعتدت أن أجده كل يوم، جالساً (أو بالأحرى مستلقياً) على رصيف الشارع مقابلي. كان كما عرفته (و بالتحديد رأيته!) دائماً، في ذات الثياب القديمة المهلهلة، لحيته التي لم تُحلق و لم تُطلق أيضاً، يداه النحيلتان المرتعشتان كأنما ترقصان على نغمة أبدية لا يسمعها سواهما، و نظراته... نظراته الحادة تجاه المارة. كانت عيناه هما الوحيدتان الملتزمتان بقانون شارعنا، كانتا الوحيدتان المتحركتان... يمنة و يسرة تتبعان المارة في شيء من الذهول يجعلك تتساءل إن كانتا ترصدان الناس لهدف معين أم أنهما التصقتا فقط بهدف متحرك فباتتا لا تتبعان سواه من دون قصد.
وقفت أتأمل هذا المخلوق العجيب النصف نائم أمامي، هذا الإنسان!!
بينما انطلق خيالي في هوايته كراوية للحكايات، حكايات بسيطة ليس فيها تشويق الدراما أو رومانسية أفلام السينما، كانت حكاياته دائماً حقيقية! و كأنما انفتحت شاشة كبيرة أما عيناي و بدأت صفحات حياته تتوالى عليها الواحدة خلف الأخرى.
و بدا لي مولوداً جميلاً يتبسم لملاطفيه (ربما ابتسامات حياته الوحيدة!) بين أبوين فرحَين بقدوم الولد بعد نسل من البنات. ثم رأيتهما و قد تملكتهما الحيرة في أي اسم يختارانه للمولود الجديد، و إذ بالأب تلمع عيناه صارخاً " نصر، نصر! ألا إن نصرَ الله لقريب!" و هللت " أم نصر " مزغردة. و علت أصوات المهنئين و المهللين " ربنا يجعل رزق أخواته السبعة في رجليه " ... " ربنا ينصره على كل عدوينه" ... " الراجل في البيت نعمة و لو كان فحمة" ... " الولد حمال المصايب..." إلى آخر العبارات التي اعتادها الناس في مثل تلك المقامات.
و يبدو أن تلك الأدعية لم تجد من يسمعها، أو أن تلك الحكم التراثية لم تكن إلا أوهام مهنئين. فلقد رأيت –عل شاشة خيالي- بعدها ما جعله " نصراً " مهزوماً مقهوراً لا يقدر أن يرفع هامته.
يتعلم " نصر " مهنة أبيه الموروثة عن الجد "الميكانيكية"، و ما يلبث أن يبرع فيها بقدر طاقته فيصبح أحد الخبراء ذائعي الصيت في المنطقة لعلاج أمراض السيارات و سائر أعراضها. و تستمر به الحياة تياراً يحمله في مهب الرياح، لم يأتِ إليها باختياره و كذا لم يختَر فيها شيئاً آخر!!
و رأيت ما أصابته الحياة، فارتعد ذهني من تلك الأهوال! مات الأبوان، و بقي وحده يحمل مسئولية سبع بنات لم يكن له يد في مجيئهن لهذه الدنيا. لم يكن يستطيع أن يتحمل لأنه لم يكن يفهم الأسباب أو الدوافع وراء أي شيء من حوله! هل فكر مرة في حاله، فتمرد على ما هو فيه؟ هل حلم يوماً أن يغير عالمه القاتم من حوله؟ هل جلس متأملاً مصيره راسماً خطة مستقبلٍ يتمناه؟ يبدو أن الأحلام و الأفكار رفاهية حرمته منها الحياة مثلما حرمته من مثيلاتهما...
فانصرف عن همه للسُكر هرباً من الواقع المؤلم، و لكن هذا لم يُزِد واقعه إلا أيلاماً. على أن طرد صاحب الورشة له كون الصورة الأخيرة على شاشتي فآل مآله أمامي، على الرصيف مقابل شرفتي، أتطلع إليه بعد يقظة من نومة الظهر القصيرة.
و إذ بـ"نصر" يعتدل في رقدته، و يمسك بطبق الـ"كُشري" الذي ابتاعه منذ يومين لينهي ما كان متبقياً فيه في حركات آلية سريعة تنم عن جوع شديد لا عن شهية مفتوحة. ثم يستكمل وجبته بجرعة من زجاجة أخفاها في صدر جلبابه الرث، و يتفرغ كي يراقب ما يجري في الشارع.
"عادل بيه" مسافر، إنه يشير إلى البواب أن يحمل له حقيبته.
ـ تيجي بالسلامة يا بيه.
ـ الله يسلمك يا " نبوي "، ابقى شوف طلبات الهانم و أنا مسافر. و ما تنساش تستنى الـbus بتاع المدرسة مع " بوسي "
" وفاء هانم " عائدة بمشتريات الأسبوع، تنزل من التاكسي و تعطي لــ"نبوي" ورقة لم يستطع " نصر " تبين قيمتها:
ـ ابقى حاسبه يا " نبوي "، و طلع الشُنط ورايا.
حركة ... حركة ... حركة ...
هؤلاء " يفسِحون " الكلب، و أولئك نازلون للصلاة، و هناك من يسألون عن عيادة "الدكتور فوزي " ....... حركة في كل مكان!
كانت عيناه كأنما الشارع، تتحرك فيهما مقلتاه. كان ينظر نظرة تائهة لكل هذا. يبدو أنه لا يفهم ما يدور من حوله، كأنه ليس موجوداً،أو موجود فقط في هامش الصفحة، لا يملك فعلاً و لا حتى إرادة فعلٍ، مغيباً عن هذا العالم المتحرك المجنون.
كانت عيناه كأنما تنتظران من يراهما، و إذ وقعتا على عيناي انتفضتا حتى كادتا تخرجان عن مدارهما!
لم يكن يعرف أني كنت أرقبه كل ذلك الوقت، و أنا لم أكن أعرف أن كل ذلك الوقت مر و أنا أرقبه. نظرت في ساعتي فإذا هي الحادية عشر. أما هو فنظر إلى جسده ثم إلى الرصيف، جَرع من زجاجته المخبأة، استلقى عل فراشه العتيد، ثم أغمض عيناه مرجئاً حركتهما إلى الغد.
و أحسست أننا أتحدنا لفترة قصيرة من الزمن، فقد كان كلانا يتابع حركة الشارع من مخبأه في سكون. و كان كلانا أيضاً في إحدى يقظاته...
كان الفارق الوحيد بيننا، الذي جعل كلاً منا في عالمه، أنني كنت أتابع من أعلى، أما هو فكان ينظر من أسفل .....
تمت
2 Comments:
Congratulations for your new blog. I'll read and comment soon.
I've been wanting to comment for a long time especially that you have asked me to. Now I feel guilty for not doing so earlier especially- again- that you have mistaken me with someone else.
Now I comment even if the computer I'm using doesn't write Arabic. I'll do it anyway cause "lan o2akher 3amal el yom ilal ghadd"
It is so amazing what writing can do. You are so truthful and so real.
This short story is amazing. I wish you could write more
Post a Comment
<< Home